الباب الأول في الترغيب في النكاح والترغيب عنه
علم أن العلماء قد اختلفوا في فضل النكاح فبالغ بعضهم فيه حتى زعم أنه أفضل من التخلي لعبادة الله واعترف آخرون بفضله ولكن قدموا عليه التخلي لعبادة الله مهما لم تتق النفس إلى النكاح توقاناً يشوش الحال ويدعو إلى الوقاع.
وقال آخرون: الأفضل تركه في زماننا هذا وقد كان له فضيلة من قبل إذ لم تكن الأكساب محظورة وأخلاق النساء مذمومة.
ولا ينكشف الحق فيه إلا بان نقدم أولاً ما ورد من الأخبار والآثار في الترغيب فيه والترغيب عنه ثم نشرح فوائد النكاح وغوائله حتى يتضح منها فضيلة النكاح وتركه في حق كل من سلم من غوائله أو لم يسلم منها الترغيب في النكاح: أما من الآيات: فقد قال تعالى: " وانكحوا الأيامى منكم " وهذا أمر وقال تعالى: " فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن " وهذا منع من العضل ونهي عنه.
وقال تعالى في وصف الرسل ومدحهم " ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية " فذكر ذلك في معرض الامتنان وإظهار الفضل.
ومدح أولياءه بسؤال ذلك في الدعاء فقال: " والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين " الآية ويقال إن الله تعالى لم يذكر في كتابه من الأنبياء إلا المتأهلين فقالوا إن يحي صلى الله عليه وسلم قد تزوج ولم يجامع قيل: إنما فعل ذلك لنيل الفضل وإقامة السنة وقيل: لغض البصر وأما عيسى عليه السلام فإنه سينكح إذا نزل الأرض ويولد له.
وأما الأخبار فقوله صلى الله عليه وسلم " النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فقد رغب عني " وقال صلى الله عليه وسلم " النكاح سنتي فمن أحب فطرتي فليستن بسنتي " وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم " تناكحوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة حتى بالسقط " وقال أيضاً عليه السلام " من رغب عن سنتي فليس مني وإن من سنتي النكاح فمن أحبني فليستن بسنتي " وقال النبي صلى الله عليه وسلم " من ترك التزويج مخافة العيلة فليس منا " وهذا ذم لعلة الامتناع لا لأصل الترك وقال صلى الله عليه وسلم " من كان ذا طول فليتزوج " وقال " من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لا فليصم فإن الصوم له وجاء " وهذا يدل على أن سبب الترغيب فيه خوف الفساد في العين والفرج.
والوجاء هو عبارة عن رض الخصيتين للفحل حتى تزول فحولته فهو مستعار للضعف عن الوقاع في الصوم.
وقال صلى الله عليه وسلم " إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير " وهذا أيضاً تعليل في الترغيب لخوف الفساد.
وقال صلى الله عليه وسلم " من نكح لله وأنكح لله استحق ولاية الله " وقال صلى الله عليه وسلم " من تزوج فقد أحرز شطر دينه فليتق الله في الشطر الثاني " وهذا أيضاً إشارةً إلى أن فضيلته لأجل التحرز من المخالفة تحصناً من الفساد فكأن المفسد لدين المرء في الأغلب فرجه وبطنه وقد كفى بالتزويج أحدهما.
وقال صلى الله عليه وسلم " كل عمل ابن آدم ينقطع إلا ثلاث ولد صالح يدعو له - لحديث -.
ولا يوصل إلى هذا إلا بالنكاح.
وأما الآثار: فقال عمر رضي الله عنه لا يمنع من النكاح إلا عجز أو فجور.
فبين أن الدين غير مانع منه وحصر المانع في أمرين مذمومين.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لا يتم نسك الناسك حتى يتزوج.
يحتمل أن جعله من النسك وتتمة له.
ولكن الظاهر أنه أراد به أنه لا يسلم قلبه لغلبة الشهوة إلا بالتزويج ولا يتم النسك إلا بفراغ القلب ولذلك كان يجمع غلمانه لما أدركوا عكرمة وكريبا وغيرهما ويقول: إن أردتم النكاح أنكحتكم فإن العبد إذا زنى نزع الإيمان من قلبه.
وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: لو لم يبق من عمري إلا عشرة أيام لأحببت أن أتزوج لكيلا ألقى الله عزباً.
وماتت امرأتان لمعاذ بن جبل رضي الله عنه في الطاعون وكان هو أيضاً مطعوناً فقال: زوجوني فإني أكره أن ألقى الله عزباً.
وهذا منهما يدل على أنهما رأيا في النكاح فضلاً لا من حيث التحرز عن غائلة الشهوة.
وكان عمر رضي الله عنه يكثر النكاح ويقول: ما أتزوج إلا لأجل الولد وكان بعض الصحابة قد انقطع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخدمه ويبيت عنده لحاجة إن طرقته فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تتزوج فقال يا رسول الله إني فقير لاشيء لي وأنقطع عن خدمتك فسكت.
ثم عاد ثانياً فأعاد الجواب.
ثم تفكر الصحابي وقال: والله لرسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بما يصلحني في دنياي وآخرتي وما يقربني إلى الله مني ولئن قال لي الثالثة لأفعلن.
فقال له الثالثة: " ألا تتزوج " قال: فقلت يا رسول الله زوجني قال.
" اذهب إلى بني فلان فقل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تزوجوني فتاتكم " قال: فقلت يا رسول الله لاشيء لي فقال لأصحابه: " اجمعوا لأخيكم وزن نواة من ذهب " فجمعوا له فذهبوا به إلى القوم فأنكحوه فقال له: أولم فجمعوا له من أصحابه شاة للوليمة وهذا التكرير يدل على فضل في نفس النكاح ويحتمل أنه توسم فيه الحاجة إلى النكاح.
وحكى أن بعض العباد في الأمم السالفة فاق أهل زمانه في العبادة فذكر لنبي زمانه حسن عبادته فقال: نعم الرجل هو لولا أنه تارك لشيء من السنة فاغتم العابد لما سمع ذلك فسأل النبي عن ذلك فقال: أنت تارك للتزويج فقال: لست أحرمه ولكني فقير وأنا عيال على الناس قال: أنا أزوجك ابنتي فزوجه النبي عليه السلام ابنته.
وقال.
بشر بن الحرث: فضل علي أحمد بن حنبل بثلاث: بطلب الحلال بنفسه ولغيره وأنا أطلبه لنفسي فقط ولاتساعه في النكاح وضيقي عنه ولأنه نصب إماماً للعامة.
ويقال إن أحمد رحمه الله تزوج في اليوم الثاني لوفاة أم ولده عبد الله وقال: أكره أن أبيت عزباً.
وأما بشر فإنه لما قيل له.
إن الناس يتكلمون فيك لتركك النكاح ويقولون هو تارك للسنة فقال: قولوا لهم مشغول بالفرض عن السنة.
وعوتب مرة أخرى فقال: ما يمنعني من التزويج إلا قوله تعالى " ولهن مثل الذي بالمعروف " فذكر ذلك لأحمد فقال: وأين مثل بشر إنه قعد على مثل حد السنان.
ومع ذلك فقد روي أنه رئي في المنام فقيل له: ما فعل الله بك فقال: رفعت منازلي في الجنة وأشرف بي على مقامات الأنبياء ولم أبلغ منازل المتأهلين.
وفي رواية قال لي: ما كنت أحب أن تلقاني عزباً قال: فقلنا له ما فعل أبو نصر التمار فقال: رفع فوقي بسبعين درجة قلنا: بماذا فقد كنا نراك فوقه قال: بصبره على بنياته والعيال.
وقال سفيان بن عيينة: كثرة النساء ليست من الدنيا لأن علياً رضي الله عنه كان أزهد أصحاب رسول الله عليه وسلم وكان له أربع نسوة وسبع عشرة سرية.
فالنكاح سنة ماضية وخلق من أخلاق الأنبياء.
وقال رجل لإبراهيم بن أدهم رحمه الله: طوبى لك فقد تفرغت للعبادة بالعزوبة فقال: لروعة منك بسبب العيال: أفضل من جميع ما أنا فيه قال: فما الذي يمنعك من النكاح فقال: مالي حاجة في إمرأة وما أريد أن أغر امرأة بنفسي.
وقد قيل: فضل المتأهل على العزب كفضل المجاهد على القاعد وركعة من متأهل من سبعين ركعة من عزب.
وأما ما جاء في الترهيب عن النكاح: فقد قال صلى الله عليه وسلم " خير الناس بعد المائتين الخفيف الحاذ الذي لا أهل له ولا ولد " وقال صلى الله عليه وسلم " يأتي على الناس زمان يكون هلاك الرجل على يد زوجته وأبويه وولده يعيرونه بالفقر ويكلفونه مالا يطيق فيدخل المداخل التي يذهب فيها دينه فيهلك " وفي الخبر " قلة العيال أحد اليسارين وكثرتهم أحد الفقرين " وسئل أبو سليمان الداراني عن النكاح فقال: الصبر عنهن خير من الصبر عليهن والصبر عليهن خير من الصبر على النار.
وقال أيضاً: الوحيد يجد من حلاوة العمل وفراغ القلب ما لا يجد المتأهل.
وقال مرة: ما رأيت أحداً من أصحابنا تزوج فثبت على مرتبته الأولى.
وقال أيضاً: ثلاث من طلبهن فقد ركن إلى الدنيا من طلب معاشاً أو تزوج امرأةً أو كتب الحديث.
وقال الحسن رحمه الله: إذا أراد الله بعبد خيراً لم يشغله بأهل ولا مال وقال ابن الحواري: تناظر جماعة في هذا الحديث فاستقر رأيهم على أنه ليس معناه أن لا يكون له بل أن يكونا له ولا يشغلانه وهو إشارة إلى قول أبي سليمان الداراني: ما شغلك عن الله من أهل ومال وولد فهو عليك مشؤوم وبالجملة لم ينقل عن أحد الترغيب عن النكاح مطلقاً إلا مقروناً بشرط.
وأما الترغيب في النكاح فقد آفات النكاح وفوائده وفيه خمسة:
الولد
وكسر الشهوة
وتدبير المنزل
وكثرة العشيرة
ومجاهدة النفس بالقيام بهن. |